التوحد-Autism

مقدمة

التوحد ليس مرضًا، أن تكون مصابًا بالتوحد لا يعني بالضرورة إصابتك بمرض أو علة. بل يعني أن دماغك يعمل بشكل مختلف عن الآخرين.
يُعد التوحد أو اضطراب طيف التوحد (Autism Spectrum Disorder – ASD) من أكثر الاضطرابات العصبية تطورًا وتعقيدًا، وهو اضطراب نمائي عصبي يظهر في مراحل الطفولة المبكرة ويؤثر على طريقة تواصل الشخص وتفاعله مع الآخرين، إضافةً إلى أنماط سلوكية مكررة أو مقيدة. تتفاوت أعراض التوحد بشكل كبير بين الأفراد، ولهذا يُطلق عليه “الطيف”، في إشارة إلى تنوع شدة الأعراض ونوعها.

ماهو التوحد؟

التوحد هو اضطراب عصبي تطوري يؤثر على قدرات الفرد الاجتماعية والتواصلية والسلوكية. لا يُعتبر مرضًا نفسيًا، بل هو حالة من حالات اضطرابات النمو العصبي التي تظهر في مراحل الطفولة المبكرة، وغالبًا ما تستمر مدى الحياة.
أُدرج التوحد ضمن تصنيفات الطب النفسي لأول مرة في خمسينيات القرن العشرين، ومنذ ذلك الحين تطورت النظرة إليه، وتم فهمه بشكل أوسع، مما أدى إلى تصنيفه ضمن “اضطرابات طيف التوحد”.

أسباب التوحد

لم يُعرف بعد السبب الدقيق للتوحد، ولكن الدراسات تشير إلى وجود تداخل بين عدة عوامل، منها:

1. العوامل الوراثية

تشير الأبحاث إلى وجود دور قوي للعوامل الوراثية في ظهور التوحد. حيث يُلاحظ أن نسبة الإصابة بين التوائم المتطابقة أعلى بكثير من غير المتطابقين، وقد تم تحديد العديد من الجينات التي قد تساهم في زيادة احتمالية الإصابة.

2. العوامل البيئية

تتضمن هذه العوامل:
• مضاعفات أثناء الحمل أو الولادة.
• تعرض الأم لبعض أنواع العدوى الفيروسية أو البكتيرية.
• نقص الأوكسجين أثناء الولادة.
• تعرض الأم لمواد كيميائية سامة أو أدوية معينة أثناء الحمل.

3. اختلالات في الدماغ

تشير فحوصات التصوير العصبي إلى وجود اختلافات في بنية الدماغ ووظائفه لدى الأطفال المصابين بالتوحد، خصوصًا في المناطق المسؤولة عن اللغة والتواصل الاجتماعي.

أعراض التوحد

تتفاوت أعراض التوحد بين الأفراد من حيث الشدة والنوع، لكنها تُقسم عمومًا إلى ثلاث مجموعات رئيسية:

1. صعوبات في التفاعل الاجتماعي
• صعوبة في فهم مشاعر الآخرين.
• ضعف في استخدام تعابير الوجه أو لغة الجسد.
• تجنب التواصل البصري.
• عدم الاهتمام بالمشاركة الاجتماعية أو اللعب مع الآخرين.

2. اضطرابات في التواصل
• تأخر في الكلام أو عدم تطوره.
• استخدام لغة غير مفهومة أو تكرار كلمات دون فهم معناها.
• صعوبة في بدء المحادثات أو الاستمرار فيها.

3. سلوكيات متكررة أو مقيدة
• تكرار حركات معينة كالهز أو تدوير الأشياء.
• تعلق شديد بروتين معين أو مقاومة التغيير.
• اهتمامات ضيقة أو غير معتادة.

أنواع اضطرابات طيف التوحد

منذ صدور الدليل التشخيصي والإحصائي الخامس للاضطرابات النفسية (DSM-5) عام 2013، تم دمج جميع الأنواع السابقة تحت مظلة “اضطراب طيف التوحد”، لكن الأنواع التاريخية ما تزال تستخدم للتفريق السريري، ومنها:

1. التوحد الكلاسيكي (Autistic Disorder)

يتسم بوضوح الأعراض في التفاعل الاجتماعي والتواصل والسلوكيات المتكررة.

2. متلازمة أسبرجر (Asperger Syndrome)

يتميز المصابون بها بمستوى ذكاء طبيعي أو فوق الطبيعي، لكنهم يعانون من صعوبات في التواصل الاجتماعي وسلوكيات متكررة.

3. اضطراب الطفولة التفككي

يبدأ الطفل في النمو طبيعيًا، ثم يفقد فجأة المهارات المكتسبة مثل الكلام أو التفاعل الاجتماعي.

4. اضطراب النمو المتفشي غير المحدد

يشبه إلى حد كبير التوحد لكن بأعراض غير مكتملة أو أقل حدة.

تشخيص التوحد

يُعد التشخيص المبكر مفتاحًا مهمًا لتحسين نتائج العلاج والتأهيل. ولا توجد فحوصات دم أو أشعة يمكن أن تؤكد الإصابة بالتوحد، بل يعتمد التشخيص على مراقبة السلوك وتقييمات سريرية شاملة، تشمل:

1. الملاحظة المبكرة

غالبًا ما تلاحظ الأسرة أو المعلمون علامات مبكرة، مثل تأخر في الكلام أو العزلة الاجتماعية.

2. المقاييس النفسية

تُستخدم اختبارات مثل:
• ADOS (مراقبة التوحد التشخيصية)
• ADI-R (مقابلة التشخيص التوحدية المُنقحة)

3. التقييم الطبي الكامل

يشمل فحوصات عصبية، وفحوص سمع، وتحاليل جينية في بعض الحالات.

العلاج والتأهيل

رغم عدم وجود علاج نهائي للتوحد، إلا أن التدخل المبكر يمكن أن يُحدث فرقًا كبيرًا في حياة المصابين. يشمل العلاج عادة مزيجًا من الوسائل:

1. العلاج السلوكي (ABA)

يعتمد على تحليل السلوك التطبيقي، ويهدف إلى تعزيز السلوكيات الإيجابية وتقليل السلوكيات غير المرغوبة.

2. العلاج الوظيفي

يساعد الطفل على تطوير مهارات الحياة اليومية، كالأكل واللباس واستخدام الأدوات.

3. العلاج بالكلام واللغة

يعالج مشكلات النطق، التعبير، وفهم اللغة.

4. العلاج الدوائي

لا يُستخدم لعلاج التوحد ذاته، بل لعلاج الأعراض المصاحبة مثل فرط النشاط أو القلق.

5. دعم الأسرة

يتضمن التثقيف، الدعم النفسي، وتدريب الأهل على كيفية التعامل مع الطفل بطريقة صحية وفعالة.

التوحد في المجتمع

يواجه المصابون بالتوحد تحديات كبيرة في التكيف مع البيئة المحيطة، نظرًا لقلة الوعي العام، وصعوبة توفير خدمات مناسبة لهم. لذلك من الضروري:
• تعزيز برامج الدمج في المدارس.
• توفير فرص عمل مناسبة للمصابين.
• دعم المبادرات المجتمعية للتوعية بالتوحد.

التوحد والذكاء

ليس كل المصابين بالتوحد يعانون من إعاقة ذهنية. في الواقع، تشير الدراسات إلى أن حوالي 40% منهم يمتلكون ذكاءً طبيعيًا أو أعلى من المتوسط. لكن قد يكون من الصعب تقييم قدراتهم بسبب مشاكل التواصل.

التوحد والتكنولوجيا

أحدثت التكنولوجيا الحديثة تحولًا إيجابيًا في حياة المصابين بالتوحد، حيث ساعدت التطبيقات الذكية، وأجهزة التواصل البديلة، والروبوتات التعليمية، في تحسين قدرتهم على التعلم والتواصل.

دعم المصابين بالتوحد

من الضروري أن يكون الدعم شاملًا ومستمرًا، ويشمل:
• توفير بيئة آمنة ومنظمة.
• تقبل الاختلافات.
• احترام خصوصية المصاب وعدم الضغط عليه للامتثال للمعايير الاجتماعية السائدة.
• تمكينه من التعبير عن نفسه بوسائل بديلة.

الختام

التوحد ليس مرضًا يجب “الشفاء” منه، بل هو طريقة مختلفة في التفكير والإدراك والتفاعل. من خلال الفهم، والقبول، والدعم، يمكننا تمكين الأشخاص المصابين بالتوحد من العيش حياة كريمة وناجحة. تكمن قوة المجتمع في تنوع أفراده، والتوحد جزء من هذا التنوع البشري الغني الذي يجب احتضانه