الانفلونزا الموسمية

مقدمة

تُعد الإنفلونزا الموسمية من أكثر الأمراض المعدية انتشارًا في العالم، وتظهر بشكل دوري كل عام مسببة موجات متفاوتة من الإصابات التي قد تتراوح بين البسيطة إلى الشديدة، وأحيانًا تكون مهددة للحياة. ورغم أن العديد من الأشخاص ينظرون إليها كمرض عابر أو بسيط، إلا أن الحقيقة تشير إلى عواقب قد تكون وخيمة على الصحة العامة، خاصة لدى الفئات المعرضة للخطر. في هذا المقال، نستعرض بشكل تفصيلي كل ما يتعلق بالإنفلونزا الموسمية من حيث أسبابها، أعراضها، سُبُل الوقاية منها، وطرق التشخيص والعلاج، مع التركيز على مضاعفاتها وتأثيرها على الحياة اليومية.

ما هي الإنفلونزا الموسمية؟

الإنفلونزا الموسمية هي عدوى فيروسية تنفسية حادة تسببها فيروسات الإنفلونزا، وتنتشر بسرعة بين البشر خلال فصلي الخريف والشتاء، حيث تسود ظروف الطقس البارد وانخفاض الرطوبة، ما يُسهّل بقاء الفيروسات في الهواء وانتقالها. تنتمي فيروسات الإنفلونزا إلى عائلة “أورثوميكسوفيريدي” (Orthomyxoviridae)، وتشمل أنواعًا مختلفة مثل الإنفلونزا A، B، C، وD، لكن النوعين A وB هما المسؤولان الرئيسيان عن الأوبئة الموسمية لدى الإنسان.

أنواع فيروس الإنفلونزا

فيروس الإنفلونزا A هو الأكثر تنوعًا ويصيب الإنسان والحيوانات، وقد يؤدي إلى أوبئة عالمية عندما يتحور بطريقة تجعل الجهاز المناعي غير قادر على التعرف عليه. أما فيروس الإنفلونزا B فيصيب الإنسان فقط، وعادة ما يكون أقل حدة من النوع A، ولكنه يساهم في نسبة كبيرة من الإصابات الموسمية. فيروس الإنفلونزا C يسبب مرضًا تنفسيًا خفيفًا ونادرًا ما يؤدي إلى أوبئة، بينما يُعد فيروس D غير مرتبط بعدوى البشر.

طرق العدوى وانتقال الفيروس

ينتقل فيروس الإنفلونزا من شخص إلى آخر عبر الرذاذ الذي يتطاير أثناء السعال أو العطس أو التحدث. كما يمكن للعدوى أن تنتقل من خلال ملامسة الأسطح أو الأدوات الملوثة بالفيروس، ثم لمس الفم أو الأنف أو العينين. وتزداد خطورة الانتقال في الأماكن المزدحمة والمغلقة مثل المدارس، المكاتب، ووسائل النقل العام. الجدير بالذكر أن المصاب قد يكون معديًا قبل ظهور الأعراض بيوم، ويظل معديًا حتى 5 إلى 7 أيام بعد بدايتها، مما يساهم في انتشار المرض بسرعة.

فترة الحضانة

فترة الحضانة لفيروس الإنفلونزا قصيرة نسبيًا، حيث تتراوح بين يوم إلى أربعة أيام. وهذا يعني أن الشخص قد يُصاب بالعدوى ويبدأ في نشرها قبل أن يشعر بأي أعراض، مما يُصعّب من احتواء انتشار الفيروس.

الأعراض والعلامات السريرية

تتسم أعراض الإنفلونزا الموسمية بظهورها المفاجئ، وتشمل:
• الحمى (وقد تصل إلى 39-40 درجة مئوية)
• الصداع الشديد
• آلام العضلات والمفاصل
• الإرهاق العام والشعور بالإعياء
• السعال الجاف
• احتقان الأنف والتهاب الحلق
• القشعريرة
• التعرق الغزير
• فقدان الشهية

بعض الحالات قد تعاني أيضًا من أعراض هضمية مثل الغثيان أو الإسهال، خاصةً عند الأطفال.

الفرق بين الإنفلونزا ونزلات البرد

من المهم التمييز بين الإنفلونزا ونزلات البرد العادية. فبينما يتسبب كلا المرضين بأعراض تنفسية، إلا أن الإنفلونزا عادة ما تكون أكثر حدة وتبدأ فجأة، وتترافق مع حمى وآلام عضلية شديدة، في حين أن نزلات البرد تتطور ببطء وتشمل غالبًا سيلان الأنف والعطس دون حمى ملحوظة.

الفئات المعرضة للخطر

رغم أن الإنفلونزا الموسمية يمكن أن تصيب أي شخص، إلا أن بعض الفئات تكون أكثر عرضة للمضاعفات الشديدة، ومنهم:
• كبار السن فوق سن 65 عامًا
• الأطفال دون سن الخامسة، خاصةً دون العامين
• النساء الحوامل
• الأشخاص المصابون بأمراض مزمنة مثل السكري، الربو، وأمراض القلب أو الكلى أو الكبد
• الأشخاص ذوي المناعة الضعيفة كمرضى السرطان أو من يتناولون أدوية مثبطة للمناعة
• العاملون في القطاع الصحي الذين يتعرضون للفيروسات بشكل مستمر

المضاعفات المحتملة

قد تؤدي الإنفلونزا الموسمية إلى مضاعفات خطيرة إذا لم تُعالج بالشكل الصحيح، ومنها:
• الالتهاب الرئوي، وهو أحد أخطر المضاعفات وقد يكون فيروسيًا أو بكتيريًا
• الالتهاب الشعبي الحاد
• التهاب الأذن الوسطى، خاصة لدى الأطفال
• تفاقم الأمراض المزمنة مثل الربو أو أمراض القلب
• التهاب عضلة القلب أو السحايا، وهي مضاعفات نادرة ولكنها قاتلة في بعض الحالات
• الوفاة، لا سيما عند الفئات الضعيفة صحيًا

التشخيص

يعتمد الطبيب في تشخيص الإنفلونزا على الأعراض السريرية في غالب الأحيان، خاصة خلال موسم انتشارها. لكن في بعض الحالات، يُوصى بإجراء فحوصات لتأكيد الإصابة، مثل:
• اختبار المستضد السريع (Rapid antigen test): يعطي نتائج خلال دقائق، لكنه أقل دقة.
• اختبار تفاعل البوليميراز المتسلسل (PCR): يُعد الأكثر دقة ويكشف عن نوع الفيروس، لكنه يحتاج إلى مختبر متخصص.
• زراعة الفيروس: تُستخدم في الدراسات وليس بشكل روتيني.

العلاج

تعتمد خطة علاج الإنفلونزا على شدة الأعراض وعمر المريض وحالته الصحية العامة. وتشمل الاستراتيجيات التالية:
• الراحة التامة وتجنب بذل المجهود
• تناول السوائل بكثرة لتعويض الفقد الناتج عن الحمى والتعرق
• الأدوية الخافضة للحرارة والمسكنات مثل الباراسيتامول أو الإيبوبروفين لتخفيف الحمى والآلام
• مضادات الفيروسات مثل أوسيلتاميفير (تاميفلو) وزاناميفير، والتي تكون فعالة فقط إذا تم تناولها خلال أول 48 ساعة من ظهور الأعراض
• استخدام البخاخات أو المرطبات لتخفيف الاحتقان والسعال

لا يُوصى باستخدام المضادات الحيوية في علاج الإنفلونزا لأنها لا تؤثر على الفيروس، إلا إذا ظهرت مضاعفات بكتيرية مثل الالتهاب الرئوي.

الوقاية

الوقاية هي السلاح الأهم في مواجهة الإنفلونزا الموسمية، وتتمثل في الإجراءات التالية:

1. التطعيم السنوي

يُعد لقاح الإنفلونزا الموسمية من أهم وسائل الوقاية، ويتم تطويره كل عام ليواكب التحورات الجديدة في الفيروسات. يُوصى بإعطائه في بداية الخريف، ويشمل عادةً حماية ضد ثلاثة أو أربعة أنواع من فيروسات الإنفلونزا. اللقاح آمن لمعظم الناس، بمن فيهم الأطفال وكبار السن والحوامل.

2. النظافة الشخصية
• غسل اليدين بشكل متكرر بالماء والصابون لمدة 20 ثانية
• استخدام معقمات اليدين عند عدم توفر الماء
• تجنب لمس الوجه بدون داعٍ
• تغطية الفم والأنف عند السعال أو العطس باستخدام منديل أو الكوع

3. تجنب الأماكن المزدحمة

خلال موسم الإنفلونزا، يُفضّل تقليل التواجد في الأماكن المزدحمة، خصوصًا إذا كنت من الفئات المعرضة للخطر.

4. تعزيز المناعة

النوم الجيد، النظام الغذائي الصحي الغني بالخضروات والفيتامينات، وممارسة التمارين الرياضية بانتظام، كلها عوامل تساعد في تقوية الجهاز المناعي وتقليل فرص الإصابة.

الإنفلونزا الموسمية في ظل الجوائح العالمية

تجدر الإشارة إلى أن جائحة كوفيد-19 قد أثرت على نمط انتشار الإنفلونزا الموسمية، حيث لاحظ الأطباء تراجعًا ملحوظًا في أعداد الإصابات خلال سنوات الجائحة، نتيجة للإجراءات الاحترازية مثل ارتداء الكمامات والتباعد الاجتماعي. ومع عودة الحياة إلى طبيعتها تدريجيًا، عاد انتشار الإنفلونزا للارتفاع مرة أخرى، ما يُبرز أهمية الاستمرار في الوقاية حتى في ظل عدم وجود جائحة.

الفرق بين لقاح الإنفلونزا ولقاح كورونا

رغم تشابه بعض الأعراض بين فيروس الإنفلونزا وفيروس كوفيد-19، إلا أن اللقاحين مختلفان تمامًا. لقاح الإنفلونزا لا يقي من فيروس كورونا، والعكس صحيح. لذلك يُوصى بالحصول على كليهما إذا كنت مؤهلاً لذلك.

تأثير الإنفلونزا على الحياة اليومية

تتسبب الإنفلونزا الموسمية في خسائر اقتصادية كبيرة بسبب الغياب عن العمل والدراسة، إضافة إلى الضغط الذي تُشكّله على الأنظمة الصحية في مواسم الذروة. في الدول المتقدمة، تُقدّر تكلفة الإنفلونزا بمليارات الدولارات سنويًا، ما بين نفقات طبية مباشرة وخسائر إنتاجية.

مفاهيم خاطئة شائعة

يعتقد البعض أن لقاح الإنفلونزا قد يُسبب المرض، وهو اعتقاد خاطئ، لأن اللقاح يحتوي على فيروس ميت أو مضعف لا يمكنه التسبب بالعدوى. كما يظن البعض أن تناول فيتامين “سي” يمنع الإصابة، رغم أن دوره الحقيقي يتمثل في دعم الجهاز المناعي وليس الحماية الكاملة.

الختام

الإنفلونزا الموسمية ليست مجرد مرض عابر، بل تحدٍ صحي عالمي يتكرر سنويًا ويستدعي استعدادًا ووعيًا مجتمعيًا كبيرًا. إن التوعية حول خطورة الإنفلونزا وسبل الوقاية منها يمكن أن يُنقذ آلاف الأرواح سنويًا، خصوصًا في الفئات الضعيفة صحيًا. الالتزام بالتطعيم، اتباع قواعد النظافة، ومعالجة الحالات في وقت مبكر، كلها عناصر أساسية للتقليل من آثار هذا المرض المنتشر. ومع تطور العلم ووسائل الوقاية والعلاج، يمكننا جميعًا أن نحدّ من تأثير الإنفلونزا الموسمية ونجعلها أقل تهديدًا لصحتنا ومستقبلنا