الزهري – Syphilis

مرض الزهري عدوى خفية بأعراض متقلبة ومضاعفات مدمرة لصحة الإنسان ، يُعد مرض الزهري (Syphilis) من الأمراض المنقولة جنسيًا التي ارتبطت تاريخيًا بالخجل والوصمة، ولكنه لا يزال حتى اليوم يمثل خطراََ حقيقياََ على الصحة العامة. الزهري مرض تسببه بكتيريا تُعرف باسم اللولبية الشاحبة (Treponema pallidum)، ويتسم هذا المرض يبدأ و بتطور تدريجي عبر مراحل متعددة، كل منها يحمل أعراضًا مختلفة وقد تتداخل أو تختفي لفترة من الزمن ، مما يجعل تشخيصه وعلاجه في الوقت المناسب أمرًا بالغ الأهمية. إن الإهمال في اكتشاف الزهري أو علاجه يمكن أن يؤدي إلى مضاعفات خطيرة جداََ تؤثر على القلب، الدماغ، والأعصاب، بل وقد تهدد حياة الإنسان.

أولًا: الأسباب وطريقة الانتقال

الزهري مرض بكتيري ينتقل بشكل أساسي عن طريق الاتصال الجنسي، وهو يصيب الأشخاص من جميع الأعمار و كلا الجنسين، لكنه أكثر شيوعًا بين البالغين النشطين جنسيًا.

تحدث العدوى عندما تخترق بكتيريا اللولبية الشاحبة الأغشية المخاطية أو الجروح الدقيقة في الجلد. ومن أبرز وسائل انتقاله:
1. العلاقة الجنسية المهبلية أو الشرجية أو الفموية مع شخص مصاب.
2. مشاركة الأدوات الجنسية دون تعقيم.
3. انتقال العدوى من الأم إلى الجنين أثناء الحمل أو أثناء الولادة (ويُعرف هذا الشكل بالزهري الخِلقي).
4. نادرًا ما ينتقل الزهري عن طريق الدم الملوث أو عمليات نقل الأعضاء، نظرًا للفحوصات الصارمة اليوم قبل الخضوع لأي عملية جراحية .

لا ينتقل الزهري عن طريق مشاركة المراحيض، أو أدوات الطعام، أو الملابس، أو أحواض السباحة.

ثانيًا: المراحل والأعراض

يمر الزهري بأربع مراحل رئيسية، تختلف في الأعراض وشدتها:

1. المرحلة الأولية (الزهري الأولي)

تبدأ هذه المرحلة عادةً بعد ٣ أسابيع تقريبًا من التعرض للعدوى. وتُعد قرحة الزهري (الشنكر) أولى العلامات:
• تظهر قرحة غير مؤلمة في موضع دخول البكتيريا، مثل الأعضاء التناسلية أو الفم أو الشرج.
• تكون القرحة صلبة الحواف ومفتوحة من المنتصف، لكنها لا تسبب حكة أو ألم، لذلك قد تمر دون ملاحظة.
• قد تتضخم العقد اللمفاوية القريبة من مكان العدوى.
• تزول القرحة من تلقاء نفسها خلال ٣ إلى ٦ أسابيع حتى من دون علاج، لكن العدوى تظل كامنة وتنتقل إلى المرحلة التالية.

2. المرحلة الثانوية (الزهري الثانوي)

تظهر بعد أسابيع أو أشهر من شفاء القرحة الأولية، وتنتشر البكتيريا في الجسم، محدثة أعراضًا أكثر وضوحًا:
• طفح جلدي يظهر على راحتي اليدين وأخمصي القدمين، ثم ينتشر لباقي الجسم.
• تقرحات مخاطية في الفم أو الأعضاء التناسلية.
• حمى، تعب، وآلام في المفاصل.
• تضخم عام في العقد اللمفاوية.
• تساقط الشعر في مناطق محددة مثل الحواجب أو فروة الرأس.
• في بعض الحالات، قد تظهر أعراض تشبه الإنفلونزا.

تستمر الأعراض بضعة أسابيع، وقد تختفي ثم تعاود الظهور، مما يخلق شعورًا زائفًا بالشفاء.

3. المرحلة الخافية (الكمونة)

في هذه المرحلة لا تظهر أعراض واضحة، وقد تستمر لسنوات. تنقسم إلى:
• مرحلة خافية مبكرة: تحدث خلال السنة الأولى من العدوى، لا تظهر فيها أعراض لكن تكون العدوى لا تزال معدية.
• مرحلة خافية متأخرة: يمكن أن تمتد لعقود، وتكون فيها العدوى غير معدية، لكنها تواصل تدمير الأنسجة الداخلية بصمت.

إذا تُرك المرض دون علاج خلال هذه المرحلة، فقد يتطور إلى المرحلة الأخيرة، وهي الأكثر خطرًا.

4. المرحلة الثالثة (الزهري الثالثي)

تُعد هذه المرحلة نادرة، ولكنها الأخطر، وتحدث لدى نسبة صغيرة من المصابين بعد ١٠ إلى ٣٠ عامًا من الإصابة الأولية، وقد تؤدي إلى:
• أضرار خطيرة في القلب، مثل التهاب الشريان الأبهر أو قصور الصمامات.
• مشاكل في الجهاز العصبي المركزي مثل الخرف، فقدان التوازن، شلل، أو مشاكل بصرية تؤدي للعمى.
• تكون تكتلات مطاطية تُعرف بالجاما (Gummas)، وهي تآكلات جلدية أو في الأعضاء الداخلية.
• فقدان السمع أو البصر.

ثالثًا: الزهري العصبي والزهري العيني

أحيانًا، تغزو بكتيريا الزهري الجهاز العصبي أو العيون، في أي مرحلة من المرض، ويُعرف ذلك بـ”الزهري العصبي” أو “الزهري العيني”:
• الزهري العصبي قد يسبب صداعًا مزمنًا، تغيّرات عقلية، خدرًا، مشاكل في الحركة أو التحكم في العضلات.
• الزهري العيني يؤدي إلى التهابات في العين، وقد يتطور إلى العمى الكامل.

رابعًا: الزهري الخِلقي (عند الأطفال)

عندما تُصاب الأم الحامل بالزهري وتنقله إلى جنينها عبر المشيمة، قد تحدث مضاعفات خطيرة:
• الإجهاض أو ولادة طفل ميت.
• تشوهات خلقية في العظام والأسنان.
• تضخم الكبد والطحال.
• تأخر النمو.
• مشاكل في الأعصاب والعينين.

وغالبًا ما يُولد الطفل بلا أعراض واضحة، مما يستدعي فحص جميع الحوامل بشكل روتيني للكشف عن الزهري وعلاجه مبكرًا.

خامسًا: المضاعفات المحتملة

الإهمال في علاج الزهري لا يؤدي فقط إلى أعراض مزعجة، بل يحمل خطرًا حقيقيًا على الحياة، من أبرز مضاعفاته:
• تلف دائم في القلب، خصوصًا الشريان الأورطي.
• مشاكل دماغية مزمنة قد تؤدي إلى فقدان الذاكرة أو الجنون.
• مشاكل في الحركة والكلام والرؤية.
• فقدان السمع أو البصر.
• تدمير الأنسجة الجلدية أو العضلية.
• نقل العدوى إلى الشريك أو الطفل.
• زيادة خطر الإصابة بفيروس نقص المناعة (HIV).

الزهري، عند اقترانه بفيروس HIV، يصبح أكثر شدة ويصعب علاجه، حيث يُضعف جهاز المناعة أكثر.

سادسًا: التشخيص وأهم التحاليل

تشخيص الزهري يعتمد على التاريخ الجنسي للمريض، الفحص البدني، والاختبارات المخبرية. من أهم وسائل التشخيص:
• فحص عينات من القرحة الجلدية تحت المجهر، للكشف عن البكتيريا اللولبية.
• التحاليل المصلية: مثل اختبارات VDRL و RPR، وهي تحاليل غير نوعية تكشف عن الأجسام المضادة.
• التحاليل النوعية: مثل TPHA أو FTA-ABS، وتُستخدم لتأكيد التشخيص بعد ظهور نتيجة إيجابية في التحاليل الأولى.
• تحليل السائل الدماغي النخاعي في حالة وجود أعراض عصبية.

وتُكرر التحاليل بعد العلاج للتأكد من نجاحه.

سابعًا: العلاج

الخبر الجيد أن الزهري قابل للعلاج تمامًا إذا اكتُشف مبكرًا. ويُعد البنسلين هو الدواء المفضل:
• البنسلين G طويل المفعول يُحقن عضليًا، بجرعة واحدة عادة في الحالات المبكرة.
• في الحالات المتقدمة، أو عند إصابة الجهاز العصبي، يُعطى البنسلين بجرعات أكبر وعلى مدى أطول.
• المرضى الذين لديهم حساسية للبنسلين قد يُعطون مضادات حيوية بديلة، مثل الدوكسيسيكلين، بعد تقييم الحالة.

من الضروري:
• علاج الشريك الجنسي حتى وإن لم تظهر عليه الأعراض.
• الامتناع عن ممارسة الجنس حتى انتهاء فترة العلاج بالكامل.
• المتابعة الطبية للتأكد من زوال العدوى نهائيًا.

ثامنًا: طرق الوقاية

رغم توفر العلاج، فإن الوقاية من الزهري تظل الخيار الأفضل. ويمكن تحقيق ذلك عبر:
1. العلاقة الزوجية الآمنة والامتناع عن العلاقات المحفوفة بالمخاطر.
2. استخدام الواقي الذكري يقلل من خطر الإصابة، لكنه لا يقي تمامًا لأن القرحة قد تكون في مناطق لا يغطيها الواقي.
3. إجراء الفحوصات الدورية للأشخاص النشطين جنسيًا أو المعرضين للخطر.
4. الامتناع عن مشاركة الأدوات الجنسية دون تعقيم.
5. الفحص المبكر للحوامل وعلاج الحالات المكتشفة لتجنب الزهري الخِلقي.
6. التوعية الصحية حول مخاطر الأمراض المنقولة جنسيًا وأهمية الكشف المبكر.

تاسعًا: أهمية التوعية المجتمعية

الحد من انتشار الزهري لا يعتمد فقط على العلاجات الطبية، بل يتطلب مجهودًا مجتمعيًا توعويًا:
• نشر المعرفة حول المرض، أعراضه، وطرق الوقاية.
• إزالة الوصمة المرتبطة به لتشجيع المصابين على الفحص والعلاج.
• تدريب العاملين في الرعاية الصحية على التعرف على الأعراض المبكرة وتقديم المشورة الجنسية الآمنة.
• دعم البرامج الوطنية للفحص المبكر، خصوصًا بين الشباب والنساء الحوامل.

الختام

هل يمكن القضاء على الزهري؟

رغم أن الزهري مرض قديم، إلا أنه لا يزال موجودًا، بل تشهد بعض الدول ارتفاعًا في معدلات الإصابة به. القضاء عليه ممكن فقط من خلال التعاون بين الأفراد، والمؤسسات الصحية، والحكومات. ولعل أهم خطوة تبدأ من الوعي الفردي بأهمية الفحص الدوري والسلوك الجنسي الآمن. لا يُعد الزهري حكمًا بالإعدام، بل مرضًا يمكن السيطرة عليه تمامًا، إذا كنا نملك المعرفة، الفحص، والعلاج المبكر